بين المفتاح والملكية و التحفيظ: تأمل في شرعية الأرض والانتماء

صادف تواجدي بالمغرب الأسبوع الماضي احتفال المغاربة بقرار أممي يرسخ مقترح الحكم الذاتي كحل واقعي لقضية الصحراء، وكأن العالم استيقظ لتوكيد ما عرفناه نحن المغاربة منذ أجيال طويلة: أن الصحراء مغربية. لكن، وأنا أتابع تداعيات هذا الخبر من بعيد، من أقاصي الولايات المتحدة، أحسست بمفارقة عميقة: بم أفرح اليوم إن كانت الصحراء دائمًا مغربية؟ لقد كبرت في تطوان، مدينة لها تاريخها الخاص في فهم معنى “الملكية” و”الشرعية”، وربما في ذلك الجواب على السؤال.

تطوان مدينة عرفت في زمن مضى وطأة الحماية الإسبانية، وعرفت بعد رحيل المستعمر تلك المرحلة الغريبة التي اختلطت فيها الحدود بين ما هو مملوك حقًا وما هو مملوك عرفًا. كان بعض المغاربة، و ما زالوا، يسكنون بيوتًا تركها الإسبان، يملكون “المفتاح” لا أكثر، أي يملكون حق الدخول، وحق العيش، وحق الإحساس بالانتماء إلى المكان، ولكن ليس الحق القانوني في الأرض أو الجدران. وآخرون لديهم “ملكية عدلية” موثقة عند العدول، شهادة تثبت أن البيت لهم، ولكنها تبقى عرضة للشك ما لم يختم الملف بـ”التحفيظ” العقاري، ذلك الختم الذي يحول الوجود الواقعي إلى وجود قانوني لا نزاع فيه. في تطوان تعلمت أن بين “المفتاح” و “التحفيظ” مسافة واسعة، مسافة تقاس لا بالأمتار بل بدرجات الاعتراف. تبدو الصحراء المغربية اليوم، في عين التاريخ، مثل بيت تطواني قديم يسكنه أصحابه منذ أجيال. الراية المغربية ترفرف فوقه، والجيش يحرسه، والإدارة تسيره، والأهالي يعيشون فيه بطمأنينة ووطنية صادقة. كل مظاهر الحياة تشير إلى أنه بيت مغربي خالص، ومع ذلك ظل العالم لعقود يتردد في توثيق “الملكية”. كان المغرب يملك “المفتاح”، رمز السيادة الواقعية، واليوم بقرار الأمم المتحدة، نال شيئًا أشبه بـ”الملكية العدلية” — اعترافًا قانونيًا ضمنيًا بأنه صاحب الحق التاريخي، وإن لم يصل بعد إلى “التحفيظ الدولي” الكامل. إن هذا القرار الأممي لا يضيف إلى الوجدان المغربي يقينًا جديدًا، بل يضع ختمًا على يقين قديم وراسخ في الضمير الوطني. ومع ذلك، يبقى الشعور بالحذر قائمًا؛ فكما في نظام العقار غير المحفظ، قد يظل الحق عرضة للتأويل ما لم يوثق نهائيًا في سجل العالم. حين أتأمل الأمر، أجد أن الفرح اليوم ليس فرح اكتساب، بل فرح اعتراف. هو فرح أن يرى الآخر ما كنا نراه نحن منذ البداية. هو الانتقال من حقيقة نحياها إلى حقيقة يعترف بها الجميع. هو كما لو أن تطوانيًا سكن بيتًا عمره أربعون عامًا، فجاءه اليوم إشعار: “لقد تم تسجيل الملكية العدلية باسمك رسميًا.”

لن يتغير في يومه شيء: سيظل يسكن البيت ذاته، يفتح الباب بالمفتاح ذاته، يشرب قهوته في البهو ذاته. لكن قلبه سيشعر بخفة جديدة، كأن اليقين صار وثيقة. بين “المفتاح” و”الملكية العدلية” و”التحفيظ”، تمتد حكاية المغرب مع الصحراء، حكاية وطن يسكن أرضه قبل أن تسجل الأرض باسمه. وإذا كانت تطوان قد علمتنا أن الانتماء يسبق الوثيقة، فإن الصحراء تذكرنا أن السيادة تكتب أولًا بالوجود، ثم تختم بالحبر الأممي.

اقول قولي هذا و أختمه بشعر عمودي من طنجة الى الكويرة، على البحر الكامل كمال المغرب بصحرائه، و بروي مكسور ارتأيت ان اسكنه لا لضرورة شعرية بل بقرار أممي.

في تطوان نام المفتاح منكسر

يرنو لباب ما له مستقر

دار تقاسم سرها أسرارها

والملك فيها للشعور وللنظر

لا صك يثبت حقها إن سئلت

لكنه محفور قلب يذكر

يا تطوان يا رمز البدايات التي

سكنت ضمير الأرض قبل الدفتر

وهكذا الصحراء أختك لم تزل

تحيا ويحكمها الهوى والمخبر

ما غاب إلا ختم أمم لاح في

قرطاسه المحفوظ صحراؤكم در

قالوا سنقر الحق بعد تردد

قلنا ومن ينكر ضياء المنظر

فالملك فكر في التراب كأنه

سر يفتح في القلوب ولا يستطر